في إعادة الإعتبار لتعبيرات الطبقات الفقيرة ”فشخ“ ”أحييه“ وتعريص“... من المنحط والمنبوذ إلى فضاء الطبقة الوسطى وإعلامها.
استقبل مشاهدو التلفزيون، أول أيام شهر رمضان، ببرنامج تلفزيوني خفيف اسمه ”لاسوستا“. ظهرت فيه المغنية سما المصري مع فتى يتحدث العربية، بلكنة مصطنعة مدّعياً أنه من أصل إيطالي. في البرنامج عبّرت سما عن آرائها في السياسة والجنس والمجتمع مستخدمة كلمات من عينة "الجلاشة" و"فشخ". لم يشكل الاستماع لتلك الألفاظ ذات الإيحاءات الجنسية المكشوفة عبر قناة تلفزيونية يشاهدها العامة مفاجأة، بل حظي البرنامج بأكثر من 116 ألف مشاهد على موقع يوتيوب بعد يوم واحد من تحميله. تداول الكثير من المصريين أغنيات سما على اليوتيوب والفيسبوك خلال الأشهر الماضية، والتي عارضت فيها نظام الحكم وسخرت منه، مستخدمة ألفاظاً من عينة "أحييه" و"تعريص" و"فشخ".
[برنامج "لسوستا" مع المغنية سما المصري]
بغض النظر عن الأصل اللغوي لهذه المفردات، فإنها جميعاً تحمل إيحاءات جنسية مكشوفة وتستخدم الآن لتوصيف مواقف سياسية وممارسات اجتماعية. فكلمة "تعريص"، وأصلها التوسط الذكوري في بيزنس بغاء الإناث، تستخدم للإشارة إلى افتقاد الساسة أو جماعة سياسية معينة للنزاهة والاستقامة. وفي سياقات أوسع من السياسة وصراعاتها نجد كلمة "فشخ" ومن معناها العربي الفصيح، وهو التباعد بين الفخذين، استمد المصريون معنى جنسياً مكشوفاً، ويتم تداولها الآن في أحاديث السياسة والمجتمع بمعانٍ عدة. فهي في صيغة المصدر "فَشْخ" (بفتح الفاء وتسكين الشين) تعنى "جداً" مثل "حلوة فشخ". أما الفعل فَشَخ (بفتح الفاء والشين) فيعني التعذيب والإهانة، وبهذا المعنى تداولها نشطاء فيسبوكيون العام الماضي في تهديدات لمعاقبة وزارة الداخلية أو فصائل سياسية معينة. كلمة "الجلاشة" والتي يتم تداولها أيضاً كتهديد هي كلمة مستحدثة، وإن كان البعض يعتبر أن أصلها رقائق الفطير "جلاش". من يستخدم هذه الكلمة، وهم كُثر على مواقع الفيسبوك، يعرّفونها بأنها اغتصاب الرجل كعقاب على جرائم سياسية، والبعض يذكر أن القائم بالاغتصاب يكون "نسناس هائج لم ير زوجته منذ عام".
حتى وقت قريب كانت كثير من كلمات وتعابير قاموس السب والردح، وبعضها قديم معروف المعنى وبعضها مستحدث مجهول الأصل، خارج القاموس اللغوي العادي لأبناء الطبقة الوسطى في مصر ووسائل الإعلام الجماهيرية، مطبوعة ومسموعة. فأغلب المسبات في العامية المصرية، كما في لهجات ولغات كثيرة، ذات إيحاءات جنسية واضحة، بل ومخجلة بالنسبة للمعايير التقليدية للمنتمين للطبقة الوسطى أو الطامحين للصعود إليها عبر سلم التعليم والثقافة. ولكن هذا التعبيرات الآن واسعة التداول ويتم تبادلها بقدر من الأريحية في الدردشات السياسية والتعليقات على المجريات بين معظم المصريين في أحاديثهم اليومية على اختلاف طبقاتهم وثقافاتهم. وقد تمت إضافة هذه الكلمات إلى لغة الجدل السياسي والاجتماعي في العوالم الافتراضية للطبقة الوسطى كالمدونات وتعليقات الفيسبوك، وتم مؤخراً تعميدها كمفردات معتادة في وسائل الإعلام الجماهيرية.
كان لباسم يوسف، صاحب "البرنامج" الأشهر في السخرية السياسية، فضل الريادة في كسر المعايير التقليدية لأدب التعبير والمخاطبة، بحيث تتمتع الكلمات التي كانت بذيئة بشرعية التواجد الواسع والعلني ومن خلال وسائل الإعلام الجماهيرية. باسم يوسف، صاحب الدرجات العلمية الرفيعة في الطب، هو تجسيد للطبقة الوسطى المنفتحة على العالم وأيضا المتطلعة للتغيير نحو العقلانية. استخدام باسم يوسف لمفردات وايحاءات، كانت تعتبر إلى حد قريب مبتذلة، بعد شحنها بمدولولات سياسية واضحة ومقدرة رائعة على انتزاع الضحك واستثارة الفكر النقدي لدى الجمهور، شكّل شرعنة لوجود تلك المفردات في الجدال السياسي وفي وسائل الإعلام الجماهيرية. إن في هذا الإبداع اللغوي وكسر التابوهات الاجتماعية في الجدل السياسي واستخدام ألفاظ وتركيبات ذات ايحاءات جنسية كانت في عداد البذاءة، لهو أحد تجليات الحراك الثوري في المجتمع المصري وتعبير عن تغيير عميق في فكر الطبقة الوسطى المصرية، إذا ما قارناه بممارسات تلك الطبقة منذ بداية عصر وسائل الإعلام الجماهيري في نهاية القرن التاسع عشر.
عكست وسائل الإعلام الجماهيرية، المطبوعة خاصة، أخلاقيات الطبقة الوسطى وبالتالي استبعدت من مضمون الثقافة المطبوعة والجماهيرية كل ما اعتبرته هذه الطبقة مبتذلاً وغير أخلاقي. فلم تتكرر تجربة مجلة "الأستاذ" لعبد الله النديم في تسعينيات القرن التاسع عشر. كان النديم اعتمد لغة عامية شعبية بما فيها من كلمات من عينة "مَرة"، وهي كلمة غير لائقة في العامية المصرية بمعنى إمرأة. بل إنه بعد مائة عام من تجربة "الأستاذ" ذات الأهمية والتأثير في تاريخ الحركة الوطنية والصحافة المصرية طالب أكاديميون بجامعة القاهرة استبعاد كتابات النديم من المناهج الدراسية لأنهم اعتبروا لغة الخطاب فيها غير مهذبة! ولم تكن مصادفة أن المؤلفات التي عنيت بتصنيف مفردات العامية المصرية وأمثالها الشعبية في النصف الأول من القرن العشرين استبعدت عمداً مفردات وتعابير شائعة بين ابناء الطبقات الفقيرة وغير المتعلمين والتي تنطوي على إيحاءات جنسية. بل وصاغ القانونيون قوانين وأحكام قضائية وسمت كثير من تعابير الطبقات الفقيرة بالانحلال والابتذال وجرّمت استخدامها العلنى. وفي حين تختفي تعابير هذه الطبقات من المطبوعات وأفلام السينما وبرامج التليفزيون، نجد ملفات قضايا المحاكم غنية بتلك اللغة التى تم تسجيلها كجزء من إثبات "جريمة" انتهاك أخلاق وأعراف المجتمع، والتي هي أساساً أخلاقيات وأعراف الطبقة الوسطى.
وحتى وقت قريب كان المثقفون ينتفضون لأي انتهاك لقواعد الاقصاء المفروض قسراً على الثقافة الجماهيرية التى هيمنت عليها الطبقة الوسطى وأخلاقياتها. من أمثلة ذلك نجد الاستنكار الشديد لجملة نادية الجندي "سلم لي على البتنجان" في فيلم "الباطنية"، وتم وضع العبارة ونادية الجندي ذاتها في سياق أنها تنتج فناً سوقياً يستهلكه ويعبر عن السوقة من الطبقات الفقيرة في سنوات السبعينيات وما تلاها. وفي منتصف التسعينيات فاجأهم نجاح محمد هنيدي ومحمد فؤاد بشعبية أغنية بكلمات غير مفهومة مثل ”كامننا“. وعندما اتضح أن العبارات الغامضة في الأغنية لا تنطوي على أي ايحاءات جنسية ولا معانٍ مبتذلة، إنما عبارات حرفية من لغة العجلاتية، طالب النقاد أن تظل تلك اللغة حبيسة بين حِرفييها العجلاتية وألا تنفتح لها وسائل الإعلام حتى لا تخرج من حيزها السوقي المحدود إلى مسامع عامة المجتمع، أي مسامع الطبقة الوسطى.
[مصدر الصورة "المصري اليوم"]
أما في دوائر حلقات شباب المثقفين المغلقة، فقد تطورت لغة "سافلة" بين نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، وكان شباب مثقفي اليسار هم أول من اشتق معانٍ جديدة من كلمة "بيض"، الكلمة الدارجة للخصية. فمنها استمدوا الصفة "بيضان" بمعنى عدم الفاعلية والقصور والفعل "يبضن" أي يثير الملل. وفي تورية مضحكة تداول الفيسبوكيون أيام شم النسيم في شهر مايو الماضي صورة لبيضة تم تزيينها بصورة محمد مرسي بمعنى أنه رئيس ممل وغير فاعل. كان استخدام هذه اللغة بين شباب المثقفين، اليساريين بشكل خاص، نوعاً من التمرد على الثقافة السائدة للطبقة الوسطى والتي هي طبقتهم أو الطبقة التى يتطلعون للانضمام إليها في آن واحد، إلا أن تبادلها اقتصر على تواصلهم الشفهي في دوائر مغلقة. ومع إرهاصات الثورة خلال العقد الماضي استخدم بعضهم هذه اللغة في مدوناتهم ومحاورات العالم الافتراضي. أما وقد اكتسح المد الثوري في أقل من ثلاث سنوات رئيسين وخلخل جماعة سياسية تصدرت مشهد الإسلام السياسي لثمانين عاماً، فإن للتغيير تجلياته في تحطيم تابوهات التعبير اللغوي والاعتراف بأن للغة كان يتم وسمها بالبذاءة والانحطاط فاعلية هائلة في الجدل السياسي المحتدم.